بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هكذا ربانا النبي صلى الله عليه وسلم أكرم به من معلم علم الناس :
1 - التربية بالموعظة :
للموعظة أثرها البالغ في النفوس، لذا فلم يكن المربي الأول صلى الله عليه وسلم صاحب الرسالة يغيب عنه هذا الأمر أو يهمله فقد كان كما وصفه أحد أصحابه وهو ابن مسعود -رضي الله عنه-:
«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا» [رواه البخاري ( 68 ]
ويحكي أحد أصحابه وهو العرباض بن سارية -رضي الله عنه- عن موعظة وعظها إياهم النبي صلى الله عليه وسلم فيقول :
وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب،
فقال رجل: إن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبد حبشي فإنه من يعش منكم يرى اختلافا كثيرا، وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ » [رواه الترمذي (2676) وابن ماجه (42)]
وحتى تترك الموعظة أثرها ينبغي أن تكون تخولاً ، وألا تكون بصفة دائمة .
عن أبي وائل قال كان عبدالله يذكر الناس في كل خميس فقال له رجل يا أبا عبدالرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم قال أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا [رواه البخاري (70) ومسلم (2821 ) ]
2- الإقناع العقلي :
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال:
إن فتى شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه،
قالوا: مه مه،
فقال: «ادنه» فدنا منه قريباً قال: فجلس قال : « أتحبه لأمك ؟ » قال: لا والله جعلني الله فداءك،
قال: « ولا الناس يحبونه لأمهاتهم»
قال: «أفتحبه لابنتك؟» قال : لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لبناتهم»
قال : «أفتحبه لأختك؟» قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لأخواتهم »
قال:«أفتحبه لعمتك؟» قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لعماتهم»
قال: «أفتحبه لخالتك؟» قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لخالاتهم»
قال: فوضع يده عليه وقال: «اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه»
فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء [رواه أحمد ] .
3 - الإغلاظ والعقوبة:
وقد يُغلظ على من وقع في خطأ أو يعاقبه :
فعن أبي مسعود الأنصاري قال:
قال رجل: يا رسول الله، لا أكاد أدرك الصلاة مما يطول بنا فلان، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضباً من يومئذ فقال: أيها الناس إنكم منفرون فمن صلى بالناس فليخفف فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة
[رواه البخاري (90) ومسلم (466 ) ].
عن سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- أن رجلا أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله فقال :
كل بيمينك قال لا أستطيع قال لا استطعت ما منعه إلا الكبر قال فما رفعها إلى فيه [رواه مسلم (2021 )]
إلا أن ذلك لم يكن هديه الراتب صلى الله عليه وسلم فقد كان الرفق هو الهدي الراتب صلى الله عليه وسلم له ، لكن حين يقتضي المقام الإغلاظ يغلظ صلى الله عليه وسلم ومن الأدلة على ذلك :
1- أن الله سبحانه وتعالى وصفه بالرفق واللين أو بما يؤدي إلى ذلك قال تعالى :
{فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} فوصفه باللين
وقال تعالى : {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ماعنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} ولا أدل على وصفه عليه الصلاة والسلام من وصف الله له فهو العليم به سبحانه .
2- وصف أصحابه له :
فقد وصفه معاوية بن الحكم -رضي الله عنه- بقوله :
فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني [رواه مسلم (537 ) ].
4- أمره صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالرفق
فهو القدوة في ذلك وهو الذي نزل عليه {لم تقولون مالاتفعلون} فهو أقرب الناس الى تطبيقه وامتثاله، وحينما أرسل معاذاً وأبا موسى إلى اليمن قال لهما :
»يسرا ولاتعسرا وبشرا ولاتنفرا«
[ رواه البخاري (3038) ومسلم (1733) ] .
5- ثناؤه صلى الله عليه وسلم على الرفق،
ومن ذلك في قوله:»ماكان الرفق في شيئ إلا زانه ولانزع من شيئ إلا شانه
« وقوله لعائشة :» إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله«
رواه البخاري (6024) ومسلم (2165) ]
وفي رواية:»إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه«
[رواه مسلم (2593) ].
وفي حديث جرير -رضي الله عنه- »من يحرم الرفق يحرم الخير«
[رواه مسلم (2592) ]
ويعطي على الرفق مالايعطي على العنف .
6- سيرته العملية في التعامل مع أصحابه
فقد كان متمثلاً الرفق في كل شيئ ومن ذلك :
أ) قصة الأعرابي الذي بال في المسجد والقصة مشهورة :
عن أنس رضي الله عنه قال :بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ جاء أعرابي ، فقام يبول في المسجد . فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم :
مه مه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تزرموه ، دعوه "
فتركوه حتى بال ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه ، فقال له :
" إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر ، إنما هي لذكر الله والصلاة ، وقراءة القرآن " أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وأمر رجلاً من القوم ، فجاء بدلو من ماء فسنه عليه . رواه مسلم .
ب) قصة عباد بن شرحبيل - رضي الله عنه - يرويها فيقول:
أصابنا عام مخمصة فأتيت المدينة فأتيت حائطا من حيطانها فأخذت سنبلا ففركته وأكلته وجعلته في كسائي، فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال للرجل:
» ما أطعمته إذ كان جائعا -أو ساغبا- ولا علمته إذ كان جاهلا « فأمره النبي صلى الله عليه وسلم فرد إليه ثوبه وأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق
[رواه أحمد (16067) وأبو داود (2620) وابن ماجه (2298 )].
ج)قصة سلمة بن صخر الأنصاري -رضي الله عنه- قال:
كنت رجلا قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري،
فلما دخل رمضان تظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان،
فرقا من أن أصيب منها في ليلتي فأتتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار ،
فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء فنلت منها
فلما أصبحت غدوت على قومي فأخبرتهم خبري فقلت انطلقوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بأمري
فقالوا: لا والله لا نفعل نتخوف أن ينزل فينا قرآن أو يقول فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالة يبقى علينا عارها،
ولكن اذهب أنت فاصنع ما بدا لك، قال:
فخرجت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبري فقال:
» أنت بذاك؟ « قلت: أنا بذاك، قال:» أنت بذاك؟ « قلت: أنا بذاك، قال:» أنت بذاك؟ « قلت: أنا بذاك، وها أنا ذا فأمض في حكم الله فإني صابر لذلك، قال:
» أعتق رقبة«
قال: فضربت صفحة عنقي بيدي فقلت: لا والذي بعثك بالحق لا أملك غيرها،
قال:» صم شهرين«
قلت: يا رسول الله، وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام؟
قال:» فأطعم ستين مسكينا«
قلت : والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا هذه وحشى ما لنا عشاء،
قال:» اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها إليك، فأطعم عنك منها واسق ستين مسكينا، ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك«
قال فرجعت إلى قومي فقلت وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم السعة والبركة، أمر لي بصدقتكم فادفعوها إلي، فدفعوها إليه
[رواه أحمد (23188) وأبو داود (2213) والترمذي وابن ماجه (2062 ].
7 - استخدام التوجيه غير المباشر :
ويتمثل التوجيه غير المباشر في أمور منها :
أ - كونه صلى الله عليه وسلم يقول مابال أقوام، دون أن يخصص أحداً بعينه، ومن ذلك قوله في قصة بريرة فعن عائشة -رضي الله عنها-
فقالت :
أتتها بريرة تسألها في كتابتها فقالت إن شئت أعطيت أهلك ويكون الولاء لي
فلما جاء رسول الله صلى اللهم عليه وسلم ذكرته ذلك قال النبي صلى اللهم عليه وسلم
ابتاعيها فأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق ثم قام رسول الله صلى اللهم عليه وسلم على المنبر فقال :
ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له وإن اشترط مائة شرط
[رواه البخاري (2735) ومسلم ]
وحديث أنس -رضي الله عنه- أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر
فقال بعضهم :لا أتزوج النساء
وقال بعضهم : لا آكل اللحم
وقال بعضهم : لا أنام على فراش
فحمد الله وأثنى عليه فقال :
«ما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني»
[رواه البخاري (1401 )].
ب - وأحياناً يثني على صفة في الشخص ويحثه على عمل بطريقة غير مباشرة، ومن ذلك مارواه عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- قال:
كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على النبي صلى الله عليه وسلم فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على النبي صلى الله عليه وسلم وكنت غلاماً أعزب، وكنت أنام في المسجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم
فرأيت في المنام كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا فيها ناس قد عرفتهم، فجعلت أقول:
أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، فلقيهما ملك آخر فقال لي:
لن تراع، فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
«نعم الرجل عبدالله لو كان يصلي بالليل »
قال سالم: فكان عبدالله لا ينام من الليل إلا قليلاً
[رواه البخاري (3738-3739 ].
ج - وأحياناً يأمر أصحابه بما يريد قوله للرجل، عن أنس بن مالك أن رجلا دخل على رسول الله ة صلى الله عليه وسلم عليه أثر صفرة وكان النبي صلى الله عليه وسلم قلما يواجه رجلا في وجهه بشيء يكرهه فلما خرج قال:» لو أمرتم هذا أن يغسل هذا عنه« [رواه أبو داود (4182 )]
د - وأحياناً يخاطب غيره وهو يسمع، عن سليمان بن صرد قال استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس وأحدهما يسب صاحبه مغضبا قد احمر وجهه فقال النبي صلى الله عليه وسلم :« إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال: إني لست بمجنون [رواه البخاري (6115) ومسلم (2610)]
8 - التشجيع والثناء :
سأله أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ يوماً :من أسعد الناس بشفاعتك ؟ فقال صلى الله عليه وسلم «لقد ظننت أن لايسألني أحد عن هذا الحديث أول منك لما علمت من حرصك على الحديث» [رواه البخاري ( 99 ) ]. فتخيل معي أخي القاريء موقف أبي هريرة، وهو يسمع هذا الثناء، وهذه الشهادة من أستاذ الأساتذة، وشيخ المشايخ صلى الله عليه وسلم بحرصه على العلم، بل وتفوقه على الكثير من أقرانه. وتصور كيف يكون أثر هذا الشعور دافعاً لمزيد من الحرص والاجتهاد والعناية .
وحين سأل أبيَ بن كعب: «أبا المنذر أي آية في كتاب الله أعظم؟» فقال أبي:آية الكرسي. قال له صلى الله عليه وسلم «ليهنك العلم أبا المنذر» [رواه مسلم ( 810 ) وأحمد ( 5/142 )] ".
إن الأمر قد لايعدو كلمة ثناء، أو عبارة تشجيع، تنقل الطالب مواقع ومراتب في سلم الحرص والاجتهاد. والنفس أياً كان شأنها تميل إلى الرغبة في الشعور بالإنجاز. ويدفعها ثناء الناس -المنضبط- خطوات أكثر .
والتشجيع والثناء حث للآخرين، ودعوة غير مباشرة لهم لأن يسلكوا هذا الرجل الذي توجه الثناء له .